قصة
موسى والخضر عليهما السلام، هى قصة تتعلق بعلمٍ؛ ليس هو علمنا القائم على الأسباب،
وليس هو علم الأنبياء القائم على الوحي، إنما هى قصة تتعلق بعلمٍ من طبيعةٍ غامضةٍ أشد
الغموض؛ ألا وهو علم القدر الأعلى، علمٌ أُسدلت عليه الأستار الكثيفة.
ذُكِرت
قصة موسى والخضر فى القرآن الكريم فى سورة الكهف، ولكن بدون تحديد الزمان ولا
المكان الذى وقعت فيه الأحداث، كما إنه لم يصرح بالإسم فقال عبدًا من عبادنا ولم
يذكر إسم هذا العبد الصالح، ولم يخبرنا هل كان نبيًا؟ أو رسولًا؟ أم عالمًا؟ أم
وليًا؟ وعدم تحديد الزمان والمكان والأسماء فى هذه القصة المذكورة في القرآن
الكريم لحِكمٍ يعلمها الله وحده.
فقال
تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا
وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف : 65].
وكان
يُجسد فيها العبد الصالح صورة للقدر المتكلم ليجيب ويرشدنا إلى بواطن الأمور ومواصفات
القدر وأنواعه، وكيف تتجلى حكمة الله تعالى في الإبتلاء؟، ليتضح لنا أن أهم ما
يتصف به القدر هو الخير والرحمة، وإن كان في ظاهره يبدو شرًا، لكن فهم أقدار الله
فوق قدرة العقل البشري.
لم
يذكر القرآن الكريم إسم العبد الصالح، ولكن حدثتنا به السُنة النبوية الشريفة أنه
" الخضر" وهو المُعلم وهو العبد الصالح، كما حدثتنا أن الفتى هو "
يوشع بن نون"، وطالب العلم هو النبي موسى عليه السلام؛ كليم الله، وأحد أولي
العزم من الرسل، وصاحب معجزة العصا واليد، والذى أُنزِلت عليه التوراة.
لا يعلم الغيب إلا الله
قام
موسى عليه السلام خطيبًا فى بني إسرائيل يدعوهم إلى الله ويحدثهم عن الحق، وكان
خطابه جامعًا ورائعًا، وبعد ما إنتهى موسى من خطابه سأله أحد المستمعين: هل على
وجه الأرض أحدٌ أعلم منك يا نبي الله؟ فأجابه موسى مندفعًا: لا.
ساق
الله عتابه لموسى لأنه لم يرد العلم إلى الله، فبعث الله إليه جبريل عليه السلام
يسأله: يا موسى ما يدريك أين يضع الله علمه؟ فأدرك موسى أنه تسرع.
وعاد
جبريل عليه السلام يقول له: إن لله عبدًا صالحًا بمجمع البحرين هو أعلم منك، تاقت
نفس موسى الكريمة إلى زيادة العلم، ونوى على الرحيل للقاء العبد الصالح وتلقي
العلم منه، فأُمر أن يرحل وأن يحمل معه حوتًا فى مكتلٍ (أي سمكة فى سلة)، وفى
المكان الذى ترتد فيه الحياة إلى هذا الحوت ويتسرب إلى البحر سوف يجد موسى العبد الصالح العالم.
رحلة موسى لطلب العلم
إنطلق
موسى ومعه فتاه وقد حمل الفتى حوتًا فى سلة، باحثين عن العبد الصالح، حتى وصلا إلى
صخرة بجوار البحر، رقد موسى واستسلم للنُعاس وبقي الفتى مستيقظًا، وألقت الرياح إحدى
الأمواج على الشاطئ فأصاب الحوت رذاذ الماء فدبَّت فيه الحياة وقفز فى البحر
سربًا، (وتسرب الحوت إلى البحر كان هو العلامة التى أعلم الله بها موسى، لتحديد
مكان لقائه بالعبد الصالح الذى سيتلقى موسى منه العلم).
قام
موسى من نومه ولم يلاحظ تسرب الحوت إلى البحر، ونسي فتاه أن يُحدثه عما حدث للحوت، ثم
سارا فى رحلتهما وقد نسيا حوتهما، حتى تذكر موسى غداءه وحل عليه التعب وطلب من
فتاه الغداء.
فتذكر الفتى كيف تسرب الحوت إلى البحر، وأخبر موسى بما حدث مُعتذرًا بأن الشيطان أنساه أن يذكر له ما حدث.
{فَلَمَّا
جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا
نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ
فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)} [الكهف : 62-64].
قال
موسى: هذا ما كنا نريده، وارتدا موسى وفتاه يقصان أثرهما عائدين، حتى وصلا إلى
الصخرة التى نام موسى عندها وتسرب عندها الحوت إلى البحر، فوجدا رجلًا فطلب منه موسى أن
يتبعه ويتعلم منه، فقال الخضر: إنك لن تستطيع معي صبرًا، لكن موسى يرجوه أن يسمح
له بمصاحبته والتعلم منه، ووعده أن يكون صابرًا ولا يعصي له أمرًا، إشترط الخضر على
موسى لمصاحبته وتعليمه، ألا يسأله موسى عن شيئٍ حتى يحدثه عنه، فوافق موسى على
الشرط.
وانطلقا موسى والخضر على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فطلب الخضر وموسى الركوب معهم فحملوهما، وبعد أن رست السفينة وغادرها أصحابها وركابها بدأ الخضر يخرقها، فاستنكر موسى فعلته بعدما قام أصحاب السفينة بحملهما وأكرموهما، فهل يكون جزاهم خرق السفينة وإفسادها؟، فاندفع موسى يحدث مُعلمه وقد نسي الشرط الذى إشترطه عليه.
{فَانطَلَقَا
حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا
لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)} [الكهف].
لفت الخضر نظر موسى إلى عبث محاولة التعليم منه وعدم صبره، ويرجو موسى الخضر ألا يؤاخذه بنسيانه، فانطلقا معًا حتى مرا بحديقة يلعب فيها الصبيان حتى تعبوا من اللعب وغلبهم النُعاس، فوجئ موسى بأن الخضر يقتل غلامًا منهم، ثار موسى عندما رأى الجريمة، وسأله: لماذا قتلت الصبي بغير ذنبٍ إرتكبه؟ فيُذكره الخضر بالشرط الذى إشترطه عليه، ويعتذر له موسى ويخبره بأنه لن يكرر سؤاله ثانيةً وإذا سأله مرةً أخرى سيكون من حقه أن يفارقه.
{قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي ۖ قَدْ
بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا} [الكهف : 76].
ثم مضى
موسى مع الخضر فدخلا قريةً وكان قد نفذ ما معهما من الطعام، فاستطعما أهل القرية
فرفضوا أن يضيفوهما، حتى جاء المساء وأوى موسى والخضر إلى خلاءٍ فيه جدار قد أوشك على السقوط، فوجئ موسى بأن الخضر ينهض ليقضي الليل كله فى إصلاح الجدار وبنائه من
جديد.
ويتعجب موسى من تصرف الخضر، من وجهة نظر موسى أن أهل القرية بخلاء ولا يستحقون هذا العمل. فيقرر الخضر الفراق ونهاية الرحلة.
{قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ۚ سَأُنَبِّئُكَ
بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف : 78].
تناقض ظاهر الأمر وباطنه
كان
الخضر يُنفذ إرادةً عليا وكانت هذه الإرادة لحكمةٍ لا يعلمها إلا الله، وحان وقت
التفسير.
لقد كانت
تصرفات المُعلم (الخضر) بالنسبة لطالب
العلم (موسى) فى ظاهرها تشوبها القسوة، بينما كانت تخفي فى حقيقتها رحمة، لكن
موسى لم يكن يعلم رغم علمه الهائل سوى القليل من العلم الرباني الذى أعطاه الله لعبده
الصالح.
علم الخضر
تلميذه موسى أن علمه (أي علم موسى) محدود، كما علمه أن كثيرًا من المصائب التى تقع
على الأرض، تحمل فى باطنها رحمةً حانية، وبدأ الخضر يكشف عن أسباب أعماله التى كانت
بإرادة السميع العليم.
خرق السفينة
{أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ
أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف
: 79].
كان
يبدو لأصحابها فى بادئ الأمر أنها مصيبة، بينما هى كانت نعمة فى باطنها، لأن هذه
السفينة كان وراءها ملكٌ يأخذ كل السفن الموجودة غصبًا، لكنه يرفض هذه السفينة ويتركها
لأصحابها ولا يأخذها لكونها بهذا الخرق تعتبر معيبة، فهذا العيب منع الملك من
أخذها لتبقى السفينة مصدر رزقٍ لأصحابها المساكين ولا يموتون جوعًا.
قتل الغلام
{وَأَمَّا
الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا
طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا
مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)} [الكهف : 80-81].
وكذلك
يعتبر أهل الغلام أن قتل وحيدهما الصغير البريء كارثة كبيرة، ويظلا يبكيان دون أن
يعلما ما الحكمة من قتله؟ ولكن موته كان لهما رحمةً عظيمة من الله، فإن الله أراد
أن يبدلهما غلامًا آخر يرعاهما فى شيخوختهما ولا يرهقهما طغيانًا وكفرًا كالغلام
المقتول.
بناء الجدار
{وَأَمَّا
الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ
كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا}
[الكهف : 82].
إن هذا
الجدار كان يستر أو يخبئ تحته كنزًا لغلامين يتيمين ضعيفين، ولو تُرك الجدار ينقض
لظهر ذلك الكنز، ولا يستطيع الغلامان الصغيران أن يدافعا عنه لصغرهما وضعفهما،
وكان أبوهما رجلًا صالحًا فنفعهما الله بصلاحه فى طفولتهما وضعفهما، وأراد أن يكبرا
ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته.
كشف الخضر حقيقة تصرفاته لموسى فى نهاية الرحلة، فكشف المُعلم لتلميذه حقيقة ما فعله، وعلمه أن رحمة الله هى التى اقتضت هذه التصرفات، وأنها كانت بأمر من الله لا من أمره، وأن الله أطلعه على الغيب فى هذه المسائل ووجهه إلى كيفية التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه، ثم إختفى هذا العبد الصالح.
الدروس المُستفادة من قصة موسى والخضر
*تعلمنا
من هذه القصة سعة علم الله الواسع العليم، وألا نغتر بعلمنا مهما كانت درجة العلم.
*تواضع
موسى فهو من أولي العزم من الرسل، لكنه طلب العلم ممن هو دونه فضلًا، ليُعلمنا الخروج
لطلب العلم وتحمل المشقة من أجل الحصول عليه.
*كما
تعلمنا كيف نرى أعمال القدر؟ وكيف تجلت حكمته تعالى واتضح لنا الخير الذى قدره
الله، لنتعلم أن نصبر على قضاء الله وقدره ونثق بتدبيره.
*الصبر
على البلاء والرضا بالقضاء والإيمان بالقدر خيره وشره، وعدم الجزع عند وقوع البلاء، كما علمنا
رسولنا الكريم صلوات الله عليه وسلامه أن أمر المؤمن كله خير.
*تعلمنا
أيضًا أن للقدر أنواع:-
١- شرًا
تراه فتحسبه شرًا، فيكشفه الله لك أنه كان خيرًا، وتعلم الحقيقة مؤخرًا كما كان فى
خرق السفينة.
٢- شرًا
تراه فتحسبه شرًا ولكنه فى الحقيقة خير، ولكن لن يكشفه الله لك ما حييت فتعيش عمرك
وأنت تحسبه شر ولم ولن تعرف الحقيقة، كما حدث في قتل الغلام.
٣- شرًا
يصرفه الله عنك وأنت لا تدري ولا تعلمه، فهو لطف الله الخفي وخيره الذى يسوقه إليك
ولن تراه ولن تعلمه.
تلك هى
أقدار الله التى تفوق فهم عقول البشر، إن المصائب تخفي فى باطنها اللطف والرحمة من
الله اللطيف الرحمن الرحيم، وسع علمه ووسعت رحمته كل شيء.
تعليقات
إرسال تعليق