ما بين المظهر والجوهر
يبالغ الكثيرون فى مظهر الأشياء ولا يهتمون بجوهرها، نجد الكثير من الشعوب مثلاً يهتمون بالوحدة الوطنية والإلتفاف حول علمٍ واحد والإنتماء إلى وطنٍ واحد، وتجد أفراد هذه الشعوب لا يدرون معنى هذه الوحدة أو الترابط الإجتماعي، ولا يسألون أنفسهم ما السبيل للوصول إليها، وربما لو عرفوا لتغيرت أحوالهم ففى الإتحاد قوة قد تكون سببًا فى دفعهم إلى الأمام دون مشقةٍ أو عناء.
• الإهتمام بمظهر الأشياء وإهمال جوهرها
ويرجع ذلك للإهتمام الزائد بمظهر الأشياء الخارجي مع عدم التمعُن فى حقيقة مقصدها، فإن سألت أحدهم على سبيل المثال: كيف تأكل؟ ستجد الإجابة؛ آكل بيميني وأُسمي الله قبل الأكل، وآكل مما يليني وأجيد المضغ ولا أُكثر من تناول الطعام، وربما يجيبك بعضهم أنه يسير على نظام غذائي مُعين، فتراهم أجابوا جميعًا عن سؤالك بكيفية الأكل؛ بالنظر لمظهر الموضوع ولكنك لن تجد إلا القليل منهم الذى ينظر بموضوعية إلى جوهر ما تقصد، ليجيبك أنه يأكل الحلال ولا يأكل الحرام الذى نُهينا عن أكله.
وإذا حاولت سؤال أحدهم عن كيفية نومه وقُلت: كيف تنام؟ ربما تكون الإجابة مثلًا: أتوضأ قبل النوم وأنام على جنبي الأيمن، لكن يا تُرى ستجد من يُجيب على سؤالك: أنام وأنا مُتوكلًا على الله وليس فى قلبي غلًا أو حقدًا على أحد وأُسلم أمري لله الذى خلقني ولن ينساني.
• التحقق من الجوهر
إذا بالغ الإنسان فى نظره إلى مظهر الشيء دون أن يتحقق من جوهره، فإنه سوف يخسر معرفة هذا الشيء على حقيقته، ليتعامل معه بدراية وفهم ووعي ليرتقي بنفسه ويسمو لأعلى الدرجات، فالإنسان والحيوان يعرف كيف يأكل، ولكن هل يستطيع الحيوان أن يُدرك ما الفرق بين أكل الحلال وأكل الحرام؟.
إن إدراك الإنسان لحقيقة الأشياء وجوهرها يُساعده كثيرًا على السير فى حياته بخطى ثابتة نحو أهدافًا واضحة، فإذا تحقق كلٌ منا من جوهر من حوله من الناس لعلم جيداً من صديقه ومن عدوه، فلا يُخدع من عدو أو يُصدم فى صديق.
لم ينبهر العرب بملابس سيدنا ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام ولا بمطعمه ولا بمشربه، لكنهم إنبهروا بحُسن أخلاقه وصدقه وأمانته، فلقبوه بالصادق الأمين قبل أن يؤمنوا برسالته، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بجوهر رسالته أن يحولهم من أُمةٍ ترعى الغنم إلى أُمةٍ تقود الأُمم.
• علاقة المظهر والجوهر
المظهر هو شكل الشيء الخارجي فقط، ومظهر الإنسان هو كل ما يحمله الإنسان من صفات جسمية أو ما يتعلق به من وظائف أو ممتلكات، لا علاقة لها بكينونته أو شخصيته، فلا نستطيع أن نحكم على أحد بمجرد رؤيته، ربما شكله كان يُخفي العديد من صفاته الذاتية.
أما جوهر الشيء فهو باطنه ومدلوله، وجوهر الإنسان هو مجموع صفاته الشخصية وسلوكياته التى إكتسبها من تربيته وبيئته المحيطة وإخلاقياته وكينونته الذاتية، وصفاته النفسية العميقة ومجموع أفكاره وصوره الذهنية وكل خبراته وتجاربه فى الحياة.
ولا نعني بذلك نفي العلاقة بين المظهر والجوهر، بل بالعكس يؤثر كلٌ منهما فى الآخر ولا ينفصلان عن بعضهما تماماً فهما يتكاملان، فالشكل يؤثر فى المضمون كما يتأثر به، فالعلاقة بينهما علاقة تأثير وتأثر.
• ضرورة التوازن بين المظهر والجوهر
إن إهتمام الناس الزائد بالمظهر وعدم الإعتناء بالجوهر، أدى إلى الإضطراب فى حياتهم، نظراً لأن الإهتمام بالمظاهر جعل الناس يحاولون إظهار أشياء مُزيفة أو ليست موجودة من الأصل، وإخفاء ملامحهم الحقيقية عن العيون، فيظهر الإنسان الشيطان وكأنه ملاك له جناحان، فيتعذر على الناس التمييز بين الحقيقي والمُزيف، والحكم على الخير والشر، ومعرفة الصورة الحقيقية من المُزيفة من كثرة التكلف.
يجب التوازن بين المظهر والجوهر، بين الشكل والمضمون، بين القشرة والثمرة، فكلاهما هاماً ولا يُمكن إهماله، ونحن لا نختلف على أهمية أحدهما، ولكن نحتاج إلى التوازن بينهما، فلا شك أن العقل يُرجح المضمون فهو المقصد، والعين تنجذب إلى الشكل الخارجي أو المظهر، فهما جانبان مُكملان لبعضهما ولا نستطيع فصلهما عن بعضهما دون إحداث خلل.
فإذا كان الإنسان حاد الذكاء ويعمل دائماً في جد ونشاط، ويُنجز كل أعماله وواجباته دون تقصير، مع العمل على تطوير نفسه وشخصيته بإستمرار، لكنه يهمل شكله أو مظهره الخارجي الذى تراه عيون الناس، فبالرغم من كل إيجابياته فإن ذلك سوف يكون سببًا فى بُعد الناس عنه ونفورهم منه لعدم إهتمامه بالصورة الخارجية التى تراها العين قبل العقل.
ولو كان العكس حيث يبدو للناس بمظهرٍ جميلٍ وبراق، مع عدم تطوير الذات وإنجاز الأعمال والتحلي بأفضل الطباع وأحسن الأخلاق الحميدة، أيضاً فإن الناس تراه إنسانًا أجوف لا يحوي بداخله أي نفعٍ لنفسه أو لغيره، فهو بذلك لديه خلل كبير فى شخصيته المُتكلفة الخداعة التى من الجائز أن تجذب الناس إليه فى البداية لكن سُرعان ما يكتشفون الشخصية التى خدعتهم.
يجب أن نُربي أبناءنا على الإهتمام بالجوهر أو المضمون مع عدم إغفال المظهر، إنك حينما تتناول ثمرة فاكهة فإنك تأكل الثمرة نفسها وترمي قشرتها فى سلة القمامة، لكنك أيضاً لن تُقبِل على تناولها من الأصل لو كانت تلك القشرة سيئة المنظر أو تالفة الشكل، فالشكل يجذبك لتناولها مع الإستمتاع بطعمها ومذاقها الحقيقي.
لقد زاد فى عصرنا الحاضر الإهتمام بالمظهر، فأصبح الناس ينفقون الكثير من أموالهم فى سبيل التظاهر بالمظاهر الخارجية، حتى وإن كان ذلك يسبب ضغطًا شديدًا عليهم، فيقتنون ويمتلكون كل ما هو أفضل وأجمل وأندر وأحسن وأغلى ليتباهوا بالمظاهر البراقة، التى تُساعد فى إتمام صفقة مادية رابحة أو إقامة علاقة ناجحة أو الحصول على أي مكسب مادي أو معنوي من أي نوع، أو حتى لمجرد الظهور أمام الناس بمظهر لائق حتى ولو كان مُزيفًا.
• إرتداء القناع لإخفاء الحقيقة
يرتدي بعض الناس العديد من الأقنعة لتغطية الحقائق، مما يؤدي إلى الإضطراب والتوتر والإنفعال، نتيجة إختلاط الأشياء بضدها فيصُعب عليهم تحديد الشيء من ضده، ونظراً لتعدد الأقنعة والوجوه المُزيفة يصعُب عليهم معرفة الطيب من الخبيث، أو تمييز الصالح من الفاسد.
فتجد الشخص البخيل يرتدي قناع الكرم ليخفي بُخله عن الناس، فيبدو كريمًا أمام الآخرين لكن عندما يقتربون منه ويتعاملون معه يظهر لهم ما يخفيه القناع من بُخل، كما يتظاهر أيضاً من يتاجر فى المخدرات أو السلاح بخلاف حقيقته الفاسدة، فيرتدي قناع التقوى والصلاح ليخفي فساده خلف قناع الصلاح، ويتظاهر بفعل الخير رياءًا للناس، ويتواجد أمامهم فى أماكن الإجتماعات المسموعة والمرئية للمشاركة فى أعمال الخير.
كما يرتدي البعض قناع الخير والإنسانية ومساعدة الناس حتى ينجح فى الإنتخابات أو يحصل على وظيفة أو مركز مرموق، وعندما يسقط عنه القناع يظهر على حقيقته، تراه عاقًا لوالديه أو زوجًا خائنًا أو آكلًا لمال اليتيم أو ظالمًا لغيره...... إلخ.
يرتدي البعض قناع الوداعة والرقة عندما يأخذ حقوقه، ويخلع هذا القناع وتبدو عليه علامات الغضب والإنفعال عند مطالبته بآداء واجباته تجاه الآخرين، وقد يصل الأمر إلى حد النفاق، فالنفاق هو الإهتمام بتجميل المظهر حتى يحصل المنافق على إعجاب الناظرين بشكله الخارجي، المنافق جميل المظهر مُتعدد الوجوه والأقنعة لكن باطنه خبيث، يُظهر جمال شكله الخادع الذى يعجب الناس ويخفي خُبث باطنه الحقيقي الخالي من الصفات الحميدة.
إن الإهتمام بالمظهر فقط فيه تزوير وتزييف للحقائق، والإهتمام بالجوهر فقط فيه خلل وإضطراب، لذلك لابد من التوازن بين المظهر والجوهر للوصول إلى أفضل النتائج، فمثلاً لو أراد شخص ما بناء مبنى سكني كبير، وأسند مهمة البناء إلى مهندس بارع، شيد البناء على أساس سليم وعندما إنتهى من البناء لم يُكمل التشطيبات اللازمة والدهانات الخارجية، من المؤكد أن مثل هذا المبنى القوى المتين لن ينال الإعجاب من صاحبه لسوء شكله وتشطيبه، وكذلك لو أن نفس الشخص كان قد أسند مهمة البناء إلى عمال البناء فقط دون مهندس متخصص، فأتموا البناء وأحسنوا تزيين شكله الخارجي دون الإهتمام بالأساس الهندسي للمبنى، مما لا شك فيه أن صاحب المبنى سوف ينبهر بشكله الجميل، لكنه بعد وقتٍ قصير سوف يُدرك أن المبنى الجميل هش ولا يحتمل، بل ومن الممكن إنهياره من هزة زلزال بسيطة، ففى الحالة الأولى كان الإهتمام بجوهر المبنى وصلابته وثباته فقط دون الإعتناء بمظهره فلم يجذب الأنظار ولا ينال الإعجاب، وفى الحالة الثانية كان الإهتمام بمظهر المبنى فقط دون الإعتناء بجوهره ومتانته فكان هشاً لا قيمة له، لذا فالتوازن بين المظهر والجوهر أفضل حتى نحصل على مبنى قوي ومتين وجميل فى نفس الوقت.
تعليقات
إرسال تعليق