القائمة الرئيسية

الصفحات

 

حديثٌ مع النفس


حديثٌ مع النفس


* جلستُ مع نفسي أُحدثها، أفكر في أعمالي التي قمت بها طوال حياتي الماضية، وماذا فعلت خلالها إلى أن وصلت إلى سن الستين؟، كِدتُ أشعر بقرب الرحيل، وكأني أُحاسب نفسي على ما فعلت قبل أن يأتي يوم الحساب، لعلي أستطيع فعلُ شيئاً ينفعني في الأيام الباقية وقبل فوات الآوان.


لقد مضى عمري وأنا أُصارع الزمن، كنت أشعر دوماً إنني بحاجةٍ إلى يومٍ مقداره 48 ساعة على الأقل، حتى يكفيني للقيام بأعمالي وإلتزاماتي ومسؤولية الأسرة وتعليم الأبناء ... وغيرها من الإلتزامات الواجبة، كنت أُحمل نفسي الكثير من الأعباء إلى حد الإرهاق، فهل في النهاية قد حققت النجاحات المرجوة أم لا؟ وهل وصلت إلى ما لم يصل إليه أحدٌ بذل من الجهد والوقت ما هو أقل؟، أم أني حملت نفسي فوق طاقتها ولم أستمتع بحياتي كما ينبغي؟.


دارت بي عجلة الحياة ولم تُمهلني لأفكر في جدولة أعمالي حسب أهميتها، فالعمل عبادة ولابد وأن نعمل، ولكن لابد أيضاً أن يكون العمل مصحوباً بالإستمتاع بالحياة، ولابد أيضاً أن يكون العمل نافعاً ومؤثراً، فيترك أثراً فى حياة الآخرين، فالإنسان يموت وأعماله لا تموت.


فيما قضيت وقتك؟

قضيت حياتك وأنت تُصارع الزمن، حتى تنجز أعمالك وتُنهي مشاريعك، إعتقاداً منك أن قائمة أعمالك هامة ومليئة ويجب عليك الإنتهاء منها، وحرمت نفسك من الإستمتاع بحياتك في مقابل القيام بالمهام وتحمل المسؤوليات، والحقيقة أن قائمة أعمالك لا تنتهي مهما طال الوقت أو قصر، فماذا فعلت بعدما أنهيت أعمالك التي تمنيت أن تُنجزها؟، وبعد تحقيق طموحاتك ومشاريعك التي حلمت بها؟، وبعد جمع الأموال الطائلة التي تاقت نفسك إليها؟.


وصلت إلى وقت الراحة والفراغ الذي تعاني منه الآن ولا تجد ما يشغلك فيه! بالطبع لم يكن ذلك هو هدفك، لأن الفراغ لا يتمناه ولا يطلبه سوى الشخص الكسول أو الشخص السلبي الذي لا دور له في الحياة، لأنك بعد إنجاز قائمة أعمالك تضع لنفسك أفكاراً جديدة لقائمة أعمالٍ جديدة، لتحقق سلسلة من الطموحات والأحلام التى لا تنتهي، ونسيت أن العُمر عبارة عن مجموع أوقات تعمل فيها لدنياك، وأوقات تعمل فيها لآخرتك، وأوقات تكد وتتعب فيها من أجل الحصول على الرزق وتلبية إلتزاماتك، وأوقات أخرى لنفسك والإستمتاع مع ذويك بأجمل اللحظات التي تمر وربما لا تتكرر مرة أخرى.


الآن وأنت تتذكر ما مضى من عمرك، أصابك الندم على الأوقات الحلوة التي فاتتك وأنت تبحث عن مشاريعٍ جديدة وأعمالٍ أخرى، تجمع منها الثروات تأميناً لمستقبل أبنائك، وضاعت منك أوقات اللعب معهم وهم صغار، والمتعة بكلامهم وأفكارهم الصغيرة ومواقفهم الطريفة، والإستمتاع بردود أفعالهم التلقائية وتعليقاتهم اللذيذة عند تنفيذ أوامرك وتعليماتك.


للآسف كنت تنهرهم كثيراً ليكفوا عن الشجار فيما بينهم، وليخفضوا أصواتهم حتى تنام وترتاح. 

والآن بعدما كبر الأبناء الصغار واستقل كل منهم بحياته بعيداً عن بيت العائلة، تشعر إنك إنشغلت عنهم فى الصغر وهم يحتاجون لوجودك، فانشغلوا عنك فى الكبر ولديهم العديد من المسؤوليات، وتتمنى أن يعود بك الزمن لتعيش معهم كل تفاصيل حياتهم، وتستمتع بكل لحظة سعيدة فيها، لماذا كان إهتمامك بأن تجمع لهم الأموال أكبر من إهتمامك بأن تسعد بقربهم؟، أعلم جيداً أن العمل عبادة، وكان عليك أن تعمل وتتحمل مسؤولية الإنفاق على أسرتك، ولكن الحكمة تقول: " اعمل لدنياك وكأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك وكأنك تموت غداً. "


لماذا كنت أنانياً؟

الحياة الدنيا ما هى إلا ممر لامقر، إذا عشتها وأنت تعلم حقيقتها وتعلم أنها زائلة لا دائمة، ثق إنك سوف تعيشها بالطريقة الصحيحة، لكنك أغفلت عن هذه الحقيقة ولم تُدركها فى وقتها، فأنت عشت أنانياً ولم تفكر فى الآخرين، وتحقيق  النفع لنفسك ولغيرك، وأنت تعلم أنك لست مُخلداً فى الدنيا، فلابد من الموت والخروج من تلك الحياة الدنيا لا مفر، فلماذا لم تترك أعمالك وأفعالك تتحدث عنك؟ ولماذا لم تدع أعمالك الصالحة والنافعة تقوم بإتمام دورك بعد مماتك؟، ويكتب بها إسمك على العديد من الكتب أو الصحف أو المستشفيات أو فى أذهان الناس الذين تأثروا بأعمال؟.


ما أجمل لحظة ساعدت فيها فقيراً!، وما أجمل لحظة أدخلت فيها البهجة والسرور على نفس طفلٍ يتيم!، وما أجمل لحظة علمت فيها أحداً من الناس شيئاً نفعه فى حياته!، وما أجمل لحظة ساعدت فيها فى علاج أو كنت فيها سبباً فى شفاء مريض!، لم تُقدر قيمة تلك اللحظات القليلة وتلك الأعمال السامية، ولو كنت علمت قيمتها الثمينة لكنت تخليت عن بعض أنانيتك، وأكثرت من فعل تلك الأعمال الصالحة الباقية، ليت العُمر يمتد ويطول لتتمكن من فعل ما ينفعك فى الآخرة، وتهتم بجمع القلوب لا بجمع الأموال، وتحقق ما فاتك فعله فى حياتك الماضية.

وللأسف عصيت ربك من أجل إنجاح أعمالك التجارية المُربحة، فقُمت بدفع الرشوة لكثير من الموظفين، فى سبيل السرعة فى إنجاز أعمالك، وكأنك فى سباق مع الزمن للحصول على الرزق، ونسيت أن الله يوزع الأرزاق على عباده كيف يشاء، وهو الرزاق العادل الذي يرزق الطير فى السماء، كما يرزق السمك فى الماء، ويرزق جميع مخلوقاته فى الأرض، سبحان الخالق الرزاق. 


لماذا لم تمنع لسانك؟ 

كم أساء لسانك اللاذع للبعض، وكم تسبب فى قتل أحلام البعض وتثبيط هممهم، وكم أصاب آخرين باليأس والقنوت بحديثه السلبي ونقده الهدام، وكأنه كان يخشى الجرأة لقول الكلمات المُحفزة والمُشجعة للآخرين، لتشجيعهم على الإقدام والمغامرة وزرع الثقة فى أنفسهم، ليفتح أمامهم أبواب التفاؤل والأمل، كما كان يبخل بإبداء الرأي فى مشاكلهم خوفاً من مواجهة المشاكل والخلافات.

كنت دوماً تهرب من الفعل وتخرج من المواقف، حتى لا تضطر لفعل شيئ، لم تكُن فعلاً كنت دائماً رد فعل، تشعر ببساطة وسهولة رد الفعل وصعوبة الفعل. 

كم من كلمةِ تشجيع كانت سبباً فى بث الأمل والخير فى نفوس الآخرين، وأحياناً كلمات النصح والإرشاد تساعد فى إنجاح العديد من المشروعات، فلماذا لم تستبدل كلماتك الهدامة التى كانت تبث الإحباط، بكلماتٍ إيجابية تبعث الأمل وتُهون الصعاب؟.

  •  دعاء ونصيحة:

فأخذت أدعو الله أن يغفر لي خطاياي ويُسامحني، ويمنحني فرصة جديدة قبل الرحيل، لكي استخدم خبراتي فى تصحيح تجاربي الماضية، وفى فعل الأعمال الصالحة النافعة التى تترك أثراً عند الناس، ويظلوا ينتفعوا بها حتى بعد مماتي، كما أنها من المؤكد سوف تنفعني فى آخرتي.


فسالت دموعي وجرت على خدي، وإذا بزوجتي تدخل وتُضيئ نور الغرفة وتسألني: ما بك يا زوجي العزيز؟

فقصصت عليها ما كنت أُحدث به نفسي، فقالت بصوتٍ حنون: هون عليك ولا تُحمل نفسك فوق طاقتها؛ إن مُحاسبتك ولومك لنفسك دليل على حُسن خُلقك ورقة قلبك وحبك للناس، وأن لديك ضمير حي وواعٍ، وأنك تخشى الله وتتقيه، فلا تيأس من رحمة الله فأنت عبداً مؤمناً، فلن يتركك الله تحزن، إن الله سوف يساعدك على تحقيق ما فاتك ويُسامحك على تقصيرك، فمهما فعلنا من أعمال الدنيا فلن تنتهي، نموت ونترك غيرنا يُكمل أعمالنا، ويبني فوق ما وضعنا له حجر الأساس لنُعمر الأرض كما أمرنا الله تعالى،  نحن نزرع بذور الخير فى الدنيا، ولنا أبناءٌ وبناتٌ أحسنا تربيتهم وتعليمهم، سوف يُكملون ما بدأناه إن شاء الله، وسوف يجني أحفادنا ثمار ما زرعناه بإذن الله.


إنك رجلٌ كريمٌ يداك ممدودتان بالعطاء دائماً، ولا تبخل على الناس بل تُعطيهم مما رزقك الله فى كل وقت، فتكفل اليتيم، ولا ترد السائل، وتساعد المحتاجين والفقراء بنفسٍ هادئةٍ وإبتسامةٍ راضية، وأنت تحاول أن تؤدي عملك على أكمل وجه، ولك عظيم الأجر إن شاء الله.


أنت نعم الزوج الصالح والمُخلص، ونعم الأب الحنون ذو السُمعةِ الطيبة والخُلق الراقي، كنت لأبنائك سنداً وفخراً وعزاً، ونعم المُعلم الفاضل  والقدوة الحسنة لتلاميذه، المُعلم الناجح المُثقف المُتطور مِثال القدوة فى أقوالك وأفعالك وأخلاقك.


أطال الله لنا فى عمرك يا زوجي الحبيب، وقوى إيمانك ووفقك فى أعمالك، وسامحك على تقصيرك.





تعليقات

التنقل السريع